صوت الصورة في سينما شاهين

مروان فوزي 01 يونيو 2018 يوسف شاهين "عدد تذكاري"

الكاتب : مروان فوزي
مروان فوزي دهشةٌ، تعجبٌ و حيرةٌ ، دائما ما وقعت وما زلت أقع تحت سيطرة الثلاث، كلما تجاسرت لفهم النصوص الموسيقية في أفلام "جو". 
عادة ما أنطلق من مُسَلَّمة أساسية، المخرج الجاد لن يخرج إلا عملاً جاداً محسوبةً كل أبعاده، وكانت الحيرة هي دائماً ما يصدمني في موسيقى أفلام يوسف شاهين. فهي متلونة بشكلٍ حربائيٍ عجيبٍ، تبدو للوهلة الأولى أنها على غير اتساقٍ أسلوبيٍ، تارة متحفظة البناء تكاد تكون متوقعةً، و تارة تبدو كأنها قليلةٌ شحيحةٌ في زخم البناء الفيلمي، و تارةً ثالثة تكاد تكون معدومةً أو منسيةً.


و مع حفاظي و تحفظي نقدياً على بعض من أسرار الأسلوب الشاهيني لصناعة و بناء فيلمٍ ما، و تفهمي لقلق الفنان بداخلة و الذي يودي حتماً لتغيرات أسلوبية تبدو كالفصام أحيانًا ، إلا أني دوماً ما كنت أخلص لحقيقةٍ نهائيةٍ راسخةٍ، أيا كان فهذا الرجل يستخدم _فقط_ صوتًا تابعًا للصورة ناتجًا حتميًا مبررًا لما نراه صوت الصورة!لثلاث ركائز الأساسية الواضحة للمشاهد والدارس لموسيقى أفلام شاهين بجانب تفرد بنائه الدرامي وعنفوانه هي، أولاً: عشقه لوسيط "الأغنية" و إصراره على استخدام هذا الوسيط، وتحميله لدلالات درامية عتيدة في تمرد واضح على تقليد استخدام النص الموسيقي الخالص.

ثانياً: ثقافته الموسيقية الموسوعية و اطلاعه على نوعيات موسيقية شتى، و ذلك يتضح في كثير من استشهاداته من أعمال موسيقية عالمية.

ثالثاً: و الأهم، الحتمية الدرامية لظهر النص على سطح البناء الفيلمي، فلكل صوت_و لو كان غير منغم موسيقيًا_ ضرورة درامية ما.
أما الركيزة الأولى فهي جليةٌ واضحةٌ في معظم أعمال شاهين و بخاصة الأعمال المتأخرة التي دومًا ما تحوي أغنيةً يحملها شاهين اللب الدرامي للعمل ككل فتبدو و كأنها انعكاس موسيقي لقضية الفيلم، و الأبرز هنا أغنيات "حدوته مصرية" لعبد الرحيم منصور و أحمد منيب و محمد منير ، "علي صوتك بالغنا" لكوثر مصطفى و كمال الطويل و محمد منير و "تعرف تتكلم بلدي" لجمال بخيت و لطيفة و عمر خيرت و ذلك في أفلام حدوته مصرية ، المصير و سكوت هنصور على الترتيب،
علاوة على استخدام الأغنية كتكئةٍ دراميةٍ و كأنها نابعةٌ من سطور سيناريو الفيلم في استغلالٍ ماهرٍ لتقنية ( (source music و التي تتحرى تفعيل الدلالة الدرامية لأي نصٍ موسيقيٍ مبررٍ ظهوره منطقياً على الشاشة، و يظهر ذلك في مشهدين أيقونيين من بين ما صنعه شاهين، الأول : مشهد حضور الزوجين لحفل أم كلثوم و تأثير أدائها على الزوج من فيلم حدوته مصرية و الثاني: مشهد الرقص الشكاء للممثل الشاب على أغنية "فات الميعاد" من فيلم إسكندرية كمان و كمان.
و عن الركيزة الثانية، فإن طبيعة أفلام شاهين و حيويتها صوتاً و صورة، بل و اتخاذ شاهين الوسيط الفيلمي كأداة تعبير شديدة الذاتية حتمت عليه الاستعانة بما في مكتبته الموسيقية ليضفى بذلك حيويةً ذات حسٍ خاصٍ في أفلامه ، و من أكثر اللحظات لمعاناً هنا أذكر : طيران المخرج الطموح (نور الشريف ممثلاً) على أنغام المؤلف الموسيقي الأميركي جورج جيرشوين (george gershwin rhapsody in blue, 1924) في "حدوته مصرية" ، و تفكك بل قرب انهيار الزوجة (سعاد حسني ممثلةً) انفعاليًا تحت وقع التآلفات المطرقية للمؤلف المجري بيلا بارتوك (béla bartók, concerto for orchestra, 1943) في "الاختيار".

أما الركيزة الثالثة والأخيرة: فهي جليةٌ من متابعة أعمال شاهين و وضع كلٍ منها في سياق مشروعه الأكبر المتمحور حول علاقات ملتبسة بالوطن، بالآخر بل و بالذات نفسها و مسرحة هذا الالتباس سينمائيًا، و أنا أتعمد هنا قول مسرحة لأن شاهين يقدم مسرحًا سينمائيًا ذا نصٍ دراميٍ شديد الحضور بالمقام الأول، و من الجائز تقييمه مقابل مشروعات مخرجين مثل فريديريكو فيلليني أو وودي ألِن و لكن هذا قول آخر. 
وبالتالي فإن تلون شاهين سينمائياً و موسيقياً يرسم منحنى فعالية استغلاله المحمود للنص الموسيقي، فنرى تفعيلًا كلاسيكيًا لمفهوم موسيقى الفيلم في الأرض و اليوم السادس و المصير ، و هي أفلام حوت أيضاً أغانيها الأيقونية، و عكست تنوع اختيارات شاهين للمؤلفين الموسيقيين للتعاون معه، و الذي بلغ مداه في التعاون مع المؤلف الفرنسي –اللبناني جابريل يارد و المؤلفين المصريين محمد نوح و عمر خيرت في أفلام وداعاً بونابرت، المهاجر و اليوم السادس على الترتيب مثالاً و ليس حصراً. 
و نرى أيضاً الاستفادة من الخاصية الموسيقية للفيلم إلى أقصى مدى في فيلم عودة الابن الضال و الذي تمت عنونته بـ "مأساة موسيقية" تناوب فيها مؤلفون موسيقيون (بليغ حمدي \ سيد مكاوي \ كمال الطويل \ أبو زيد حسن) بناء ما يشبه سيناريو موسيقي موازي لدراما الفيلم، و ربما تعمد شاهين استخدام نفس الخاصية "الأوبرا-سينمائية" في الاستفادة من الموسيقى إلى آخر مداها أيضاً في فيلم إسكندرية كمان و كمان حيث تعاون شاهين مع محمد نوح في وضع ما يمكن وصفه بفيلم قصير متمثل في أوبيريت "اهتفوا باسم الإله" داخل الفيلم الأصلي و التي مثلت تلخيصاً موسيقياً بليغاً سوريالياً مغرقًا في بلاغته و سورياليته عن إسكندرية كمان و كمان !!
حتى الصوت غير الموسيقي نال حظه من التعاون مع شاهين، ففي فيلم إسكندرية ليه المتأرجح بين التوثيقين الذاتي و التاريخي الدولي، تثور الذات و تغضب (محسن محي الدين ممثلاً) على أصوات مدافع الحرب بلقطات توثيثقية حقيقية في دلالة عميقة.

و لكن بشكلٍ خاصٍ أستطيع أن أرصد ثلاث لحظات دالة في منهجية تعامل يوسف شاهين مع النص الموسيقي في أفلامه. . .

التلاعب بالواقع و الخيال في "إسكندرية كمان و كمان"
فيلم شاهيني ذاتي بامتياز، سيصدمك للوهلة الأولى بتشابك خطوطه و سرديته غير التقليدية، و لكن من الجائز جداً فك شفرة الفيلم بأكمله من مشهد قصير بليغ يقوم فيه شاهين بالتمثيل أيضاً. 
من ضمن محاولات عديدة لإقناع الممثلة الشابة (يسرا) بالتعاون مع المخرج العتيد و في أحد اسكتشافاتهم الليلية للمدينة، و بعد زيارتهم للمولد في منطقة قاهرية بامتياز، يشترك المخرج في مباراة تحطيب ودية مع رواد المكان و يحاول إثبات مهارته في استخدام العصا بشكل مازح، ثم يتطور الأمر لمباراة تحطيب غاية في الجدية ليثبت المخرج عدم صحة تعليق أحد المارة بأن "السينما خدع و حيل" و هنا فقط يختفي صوت المكان، و تبدأ الموسيقى و التي تعلو و تنفعل كلما ازدادت صلابة المخرج في عناد صلب صامت تحت ضربات عصا المحطب الآخر المرتدي زياً ذا هوية مصرية خالصة. 
و يتضح كل شئ، لقد تم الاختبار الحقيقي من الجمهور و هو اختبارٌ صعبٌ شاقٌ يتطلب صلابةً غير اعتيادية، و يتم تغليف المشهد كاملا بالنص الموسيقي بين زخم و ضوضاء ما حدث و ما سيحدث من دراما الفيلم، و يتم تأكيد المعنى بعد تعليق الممثلة الشابة منبهرة من مدى حب المخرج لفنه، و بالتالي يقف المشهد بهذه الإشارة الموسيقية و كأنه منطقة حياد من الفيلم ككل ، من واقعه (إضراب النقابة) و من سورياليته التاريخية و من ضوضائه المتعمدة، محتلاً منطقة بين الواقع و الخيال تلخص الإشكالية الخالصة للفيلم و ربما لأفلام سيرة شاهين الذاتية بأكملها و هي (أن تكون مختلفاً).

دلالة مزدوجة للحنٍ دالٍ واحدٍ في "الاختيار"
طالما سحرني في هذا الفيلم ذلك السيناريو المحكم لنجيب محفوظ لفكرةٍ براقةٍ في سودويتها على تأكيد وجود شرخٍ ما في الهوية المصرية، و على مستوى الرد القصصي الأول تبقى جريمة القتل غير المحلولة (أي التوأمين قتل الآخر؟) هي دافع الدراما و متابعها للأمام ليضاعف شاهين بالتعاون مع علي إسماعيل هذا التوتر الدرامي بلحن واحد فقط في تفعيل ماهر لتقنية اللحن الدال (Das Leitmotiv) الدرامية العتيدة و الضاربة في أصول الدراما حتى ريتشارد فاجنر، يدلل اللحن للأخين و يبرهن على كونهما واحدًا بالرغم من انفصالهما، لحنٌ بسيطٌ مسالمٌ إنسانيٌ حتى في تصويته (صوت صفير فم) يبدأ به الفيلم و ينتهي به و كأنه كابوسٌ يهاجم فيه أحد التوأمين الآخر في سيارة الإسعاف لانعلم أيهما جسد و أيهما شبح ، كونهما كلًّا منفصمًا أم فصمين متصارعين ، يتحتم علينا الاختيار!

التفعيل الحواري للأغنية في "اليوم السادس"
ذلك الفيلم الممتع الذي يلامس الوتر النوستالجي (الحبيبة: امرأة – وطن) الأزلي درامياً و موسيقياً بل احتفاء هوليوودياً بالرقص (معشوق شاهين الأزلي هو الآخر). في فصل يقترب من نهاية الدراما يتحاور كل من الحالم بسذاجةٍ كارثيةٍ عوكةٍ (محسن محي الدين ممثلاً) مع الصامدة المحيرة صديقة أو بالأحرى الوطن (داليدا ممثلةً) على متن رحلة النجاة، و الأمل الأخير شمالاً مع اندفاع مياة النيل، كيف يتحاوران؟ بأغنيتين !! في لحظة بليغة تعكس ألف و ألف تفسير لنص أنريه شديد الأصلي حيث يتقاطع الأداء بين أغنيتين : حدوتة حتتنا (أغنية الفيلم لصلاح جاهين و عمر خيرت) مقابل بتبصلي كدة ليه ؟ ( من تراث الموسيقى المصرية لأحمد رامي و محمد القصبجى) كلا من الشخصيتين تنظر إلى الأخرى و تحمل مقطعًا من أغنيتها توتر الحوار حيث تتقاطع الأغنيتان بشكلٍ غرائبيٍ و لكنه لا يزال مألوفًا بسبب منطقه الدرامي ،و ليتحول الحوار برمته لعدائية حميمية موسيقية قد نجد مثلها فقط عند شاهين!! 
. . . و حتى الآن لا زلت أحتفظ بدهشتي و تعجبي و حيرتي كطفلٍ في مصنع الحلوى كلما ولجت إلى عالم ذلك المخرج الآسر في جدليته و الممتع في عنفوانه ، "جو – حبيب قلبي" ، يوسف شاهين.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات