العقل والوحى في مصير يوسف شاهين

محمد عثمان خليفة 01 يونيو 2018 يوسف شاهين "عدد تذكاري"

الكاتب : محمد عثمان خليفة
سعى يوسف شاهين، المخرج المصري الفذ، طيلة مسيرته الفنية إلى إيجاد القواسم المشتركة بين الشرق والغرب، واختار لذلك قالبا خاصا امتزجت فيه الرومانسية بالموسيقى والاستعراض، والأفكار التاريخية بالرسائل المضمرة بين المشاهد. يقول شاهين: "يعتبر المتفرج أفلامي صالحة لأي زمان وكل مكان". تأليف ــ جوان دوبو: ترجمة ــ محمد عثمان خليفة


سعى يوسف شاهين، المخرج المصري الفذ، طيلة مسيرته الفنية إلى إيجاد القواسم المشتركة بين الشرق والغرب، واختار لذلك قالبا خاصا امتزجت فيه الرومانسية بالموسيقى والاستعراض، والأفكار التاريخية بالرسائل المضمرة بين المشاهد. يقول شاهين: "يعتبر المتفرج أفلامي صالحة لأي زمان وكل مكان".
تدور أحداث فيلم "المصير" في أندلس القرن الثاني عشر الميلادي، ويتناول جانباً من حياة ابن رشد، الفيلسوف التنويري العربي، حيث نراه بطلاً في مواجهة مع شيوخ الدين ورجال السلطة، وسط مريدين يقدمهم لنا الفيلم بمسميات لافتة: "يوسف المنفي"، "ناصر الأمين"، و"عبد الله الثوري". ويستهل الفيلم مشاهده بتقديم بشاعة تنفيذ عقوبات محاكم التفتيش آنذاك، وينهيها بمشهد إحراق الكتب، في تأكيد على أن الفكرة تولد لتحيا حتى لو استحالت الأوراق رماداً. ووحده شاهين كان قادراً على أن يقدم لنا صورة الفيلسوف العربي الذي يرقص طرباً إن واتته فكرة وجيهة.

يحكي شاهين عن الفيلم: "ربما يعود جانب مما حققه الفيلم من نجاح إلى طرحي لمسألة شائكة؛ ألا وهي إشكالية التعصب. ولحقيقة أنني درست في أمريكا، فقد كان هدفي أن أقدمها في قالب ترفيهي مشوق. عليك ألا تسمح بتسرب الملل إلى المشاهد، امنحهم أجواء المغامرة، ولكن دون أن تسلبه حقه في التفكير. هكذا وجدت أن شخصية ابن رشد تمنحني النموذج الأمثل لمقاربة مثل هذه؛ فهو الفيلسوف الذي آمن بإمكانية تعايش العقل والتجليات".
أنت أمام مخرج مصري، تجاوز السبعين ولكنه يصر على ألا يسلبه أحد روحه الشابة، ويؤكد على ذلك في كل ما يقوم به، حتى في حبه لارتداء الجينز. تكاد لا ترى أصابعه من دون سيجارة مشتعلة مدسوسة بين أناملها، ويتحدث على سجيته وبسرعة بديهة تليق بمصري. يصف فيلمه "المصير" بأنه أحد أشد أفلامه تعقيداً. "لكنني أبذل جهدي حتى يفهمه عامة الجمهور قدر الإمكان، وخاصة في بلدي مصر. ولا يعني هذا أنني أصنع أفلاماً مختلفة لجمهور مختلف، ولكنك تخاطب جمهوراً قد لا يحظى قطاع منه بالتعليم والثقافة الكافية، وعليك أن تتجنب الوقوع في فخ الإفراط فتظهر وكأنك تدعي احتكار المعرفة؛ يكفينا من يزعمون احتكار معرفة الرب، ومن يهيمنون على المعرفة السياسية، فلا يتحمل المشهد ظهور من يدعون احتكار المعرفة أيضاً".
"قررت تقديم فيلم عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية عندما وجدت أن قرطبة الإسبانية في القرن الحادي والعشرين تشبه مدينتي الإسكندرية في بدايات القرن العشرين، زمن كان الكل يتعامل مع الكل بحب ومودة، من دون نظر إلى عرق أو عقيدة أو دين. صادفتني المشكلات في القاهرة، وكانت رغبتهم في تشكيل لجنة لمراجعة الأحداث التاريخية في سيناريو الفيلم. وقلت لهم إن لم تعجبكم وجهة نظري قدموا فيلماً يرد على فيلمي. فيلمي ليس محاضرة في التاريخ، إنه طرح أقدمه لزاوية منه". وذكر لي أنه صوّر مشاهد الفيلم في سوريا ولبنان، عوضاً عن المناطق الأصلية في إسبانيا، بسبب أعداد السياح هناك.
لم يعدم شاهين، خلال مسيرته السينمائية على مدار نصف قرن، المشكلات مع الأنظمة السياسية والأجهزة الرقابية؛ وقد شارك ذات مرة في أحد الإضرابات: "قيدت يديّ بالأغلال عند باب رئيس الوزراء. كانت كل مشروعات السينمائية مخاطرة كبيرة، وقاتلت لأجلها كالمجنون بكل شراسة. يضيع ثمانون في المائة من وقتي في السياسة، ويبقى لأعمالي أقل من عشرين في المائة منه. والبحث عن تمويل لأفلامي نوع من السياسة؛ ويذهب كل قرش من ذلك التمويل في صناعة الأفلام. لا أمتلك رفاهية أن أتوقف. وتحاول الحكومة القضاء على صناعة السينما بفرض الضرائب، ويبدو أنه لا هم لها سوى التليفزيون".
وربما كانت أقسى تلك التجارب هي تلك التي عايشها وقت عرض فيلمه "المهاجر" (1994)، الذي يتناول قصة النبي يوسف وهروبه إلى مصر. فبعد مرور تسعة أسابيع فقط على عرضه في دور السينما المصرية، تقرر منع عرض الفيلم. ويفضل المخرج أن يهوّن من وطأة تلك التجربة، برغم أنه تعرض لخسائر مالية وتلقى تهديدات بالقتل.

"كل ذلك بسبب محام متأسلم تقدم ببلاغ يطالب فيه بمنع عرض الفيلم لأننا نصور فيه أحد الأنبياء. أعتقد أنه كان مدفوعا من تلك الجماعات المتطرفة، في ظل تواطؤ من المسئولين. من هذا الذي يطلب مني ألا أستمد أفكاراً لأفلامي من التوراة أو الإنجيل أو القرآن؟ إنها كتب سماوية مليئة بالقصص والعبر التي تصلح لتقديمها ما دام الزمان. كأنك تفرض عليّ أن أتوقف عن التفكير! ولكنني اشكر ذلك المحامي، لأنه أوحى لي بفكرة فيلمي الجديد.. عن إنسان قرر أن يتوقف عن التفكير".
يقدم فيلم "المصير" كذلك شخصية عبد الله، الذي غسلت الجماعات الإسلامية المتعصبة عقله. "ولكن المتعصبين ليسوا في البلدان العربية فقط. عليكم التوقف عن استخدام مصطلح "الإرهاب الإسلامي"؛ فماذا عن الإرهاب الكاثوليكي والإرهاب اليهودي؟ ماذا عن المحافظين بيض البشرة في واشنطن؟ وماذا عن لوبان هنا في فرنسا؟ صار الناس يميلون إلى التعصب العرقي والديني، وأشد نزوعاً إلى التطرف والإرهاب، وانتشرت الجماعات على كل الألوان".
"الحقيقة هي أن الفيلم يبقى فكرتك وقصتك أنت. ملأني الشغف يوم أن اصطحبتني أمي لمشاهدة مسرح خيال الظل الصيني وأنا في الرابعة من عمري. وصنعت سينما خاصة بي في المنزل". لما بلغ التاسعة، كان الهوس قد تملك منه فعلاً، ونفذ مشروعاً في المنزل، تسبب في حادثة أحدثت تحولاً جذرياً في حياته: "صنعت ديكوراً بالشموع، وأمسكت النار بالورق. وكذبت عليهم وادعيت أن أخي الأكبر مني هو من فعلها. وبعد أسبوع، توفي أخي بالسل".
يرى يوسف شاهين، الذي درس السينما في باسادينا بلاي هاوس وعرف أسرار الفن السابع في أمريكا الأربعينيات، أن هناك قاسما مشترك يجمع بينه وبين يوسف "المهاجر" ويوسف "المصير".
يتحدث عن عائلته، والده من أصول لبنانية وأمه يونانية، فيرى أنها مزيج مبهر جمع بين المسيحية واليونانية والإسلام والدرزية. "أنا لا أفهم من يتحدون عن الحواجز الدينية. لم أعتقد أبداً أن الرب مخيف؛ أتعامل معه مثل صديق ودود. اقرأ التوراة والقرآن والإنجيل، وأجد أن النصوص تتشابه مع نصوص أخناتون، الملك المصري القديم. نشأت وتعلمت خمس لغات، وكنت في مدرسة إنجليزية لا يقصدها إلا أولاد الأغنياء، برغم أننا لم نكن منهم".
كان والده محامياً يعتنق المبادئ ويقدمها على أي غاية أخرى: "تعلمت منه الصدق والأمانة والصراحة. لحظة أن تكذب هي نفسها لحظة ألا تكون مخرجاً سينمائياً أو مبدعاً من الأساس".
في العام 1951، سافر شاهين إلى فينيسيا، للمشاركة في مهرجانها السينمائي: "كنت أحمل معي أحد عشر شريطاً سينمائياً، هي فيلمي "ابن النيل". كنت في الخامسة والعشرين. وكان من الطبيعي ألا يهتم أحد بحضور العرض، ولكن حدثت معجزة، وهبت عاصفة أجبرت من كانوا عند الشواطئ إلى اللجوء إلى دار العرض، وشاهدوا فيلمي وهم بملابس البحر. لم تكن ميزانية فيلمي لتقارن أبداً بالأفلام القادمة من أمريكا، أو الأفلام الفرنسية".
"استغرق العمر مني ثلاثين عاماً حتى أحظى بدعم فرنسي، ووقت أطول من ذلك للوجود القوي في كان. ويوم تكريمي، أدركت أني تمكنت من قلوب جمهور كان، وصفقوا لي طويلاً، حتى احمر وجهي خجلاً وحباً. ولحظتها كنت شخصيتين: تلك الشخصية التي صعدت لتسلّم الجائزة، وهي في أوج قوتها، فلكي تكسر ذلك الحاجز الغربي لا بد أن تكون قوياً بحق. أما الشخصية الثانية فكانت جالسة في مكانها تفكر.. هل هذه هي النهاية؟ هل حانت اللحظة التي ينبغي لي فيها أن أعلق عدساتي إلى الحائط؟ وما هو إلا أسبوع حتى كنت عاكفاً على كتابة سيناريو فيلم جديد".

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات