شاهين في مرآة دولوز

بدر الدين مصطفي 01 يونيو 2018 يوسف شاهين "عدد تذكاري"

الكاتب : بدر الدين مصطفي
" الحقيقة أنك تسببت بفيلمك هذا في إحداث خيبة أمل كبيرة تجاه الجمهور. إذن.. لقد نجحت في إحداث نوع من القلق والوجوم لدى المشاهدين.. ليجلسوا مع أنفسهم ويطالعوا من جديد المراجع التاريخية، ويحللوها كما فعلت أنا للوصول إلى الحقيقة" حوار مع يوسف شاهين "في الوقت الذي يعلن السيد، والمستعمر.. لم يكن ثمة شعب هنا على الإطلاق" فإن الشعب المُتغيب يمثل صيرورة، إنه يخلق نفسه.. في مدن الصفيح، وفي المخيمات، وفي الملاجئ، ضمن شروط جديدة من النضال" دولوز عن سينما شاهين


يشير روشا، في البداية، إلى الأمام ثم إلى الخلف، ويشير بعدئذ إلى اليسار قائلا: "ذلك الطريق هو طريق سينما المغامرة الجمالية والتساؤل الفلسفي، وهذا الطريق هو طريق سينما العالم الثالث.. سينما خطيرة، رائعة جدًا، ومدهشة، القضايا فيها قضايا عملية، مثل الإنتاج والتوزيع.". وتثب المرأة بعيدًا متجهة إلى طريق سينما العالم الثالث، ولكن الظهور الملغز لكرة مطاطية حمراء يبدو معوقًا لها عن التقدم في هذا الاتجاه. وكلما تقذف الكرة بركلة، ترتد إليها مرة أخرى بعناد- ثم تلتفت بعدئذ للخلف متجهة إلى روشا، الذي كان لا يزال واقفًا عند مفترق الطرق، بذراعيه الممدودتين مثل الفزاعة أو مثل مسيح مصلوب دون صليب. وأخيرًا تشرع في السير إلى الأمام، من جديد، في طريق المغامرة الجمالية والتساؤل الفلسفي.

بحسب منظري السينما يمكن التفرقة بين ثلاثة اتجاهات رئيسة في سينما الحداثة تندرج تحتها أنواع شتى من الأفلام:

السينما الأولى
السينما الأولى first cinema هي سينما هوليوود التجارية، التي تقف وراءها مجموعة من الشركات الرأسمالية، التي تستثمر أموالها في مجال صناعة السينما. ومن الطبيعي والحال هكذا، أن يغدو الربح شرطًا وهدفًا أساسيًا لتلك الشركات. وهي من أجل هذا الهدف لا تتورع عن الإنفاق ببذخ على تلك الصناعة؛ إذ ينطبق على العمل السينمائي، وفقا لهذا المنطلق، ما ينطبق على أي سلعة أخرى يهدف صانعوها للربح، وبالتالي ترويجها بجميع الوسائل المتاحة. وما ينفق بيد سيأخذ أضعافاً باليد الأخرى.
ولأن الهدف هو الربح، يعتمد هذا النمط على إثارة أكبر قدر ممكن من الغرائز والرغبات المكبوتة لدى المتفرج، بالإضافة إلى منحه قدر كبير من الإبهار داخل الصورة. أما الموضوع أو الفكرة التي يناقشها الفيلم، فعادة ما تكون سطحية، مكررة، تفتقد الحبكة والتماسك، ومليئة بالثغرات والأحداث اللا منطقية. إذ تعتمد هذه الأفلام على ممارسة نوع من "التخدير" للمتلقي يسلب منه فاعليته النقدية، ويقلص وعيه الفعال، في مقابل مخاطبة مناطق الحس والغريزة لديه. والخلاصة أن هناك "توليفة" جاهزة، لهذا النمط التجاري، يعاد إنتاجها باستمرار مع إلباسها ثوبًا جديدًا كل مرة.
كما يعتمد هذا النمط أيضًا على نظام توزيع العمل والاختصاصات، ولا يسمح بخرق هذا النظام، فكل فرد في مجموع صناع الفيلم، له وظيفته المحددة التي لا ينبغي له تجاوزها. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على المخرج، إذ إن دوره محدد، فهو مجرد منفذ للسيناريو، يحوله فقط من لغة إلى صورة، وينتهي دوره عند هذا الحد.
وعلى الرغم من أن هذا النمط قد ارتبط ظهوره تاريخيًا بهوليوود، فإنه قد طغى وسيطر على العديد من سينمات البلدان الأخرى، وأصبح هو النموذج المحتذى. وربما يعود السبب في هذا إلى كون هذا النمط "أمريكيا"، وكل ما هو "أمريكي" ينبغي تقليده، وربما أيضًا لأنه اكتشف مجالًا للاستثمار، أثبتت معظم التجارب نجاحه.

السينما الثانية
في مقابل النمط الأول هناك السينما الثانية Second Cinema، وهي السينما الأوروبية، التي لا تضع الربح في مقدمة أولوياتها، فهي تهتم بالبحث والتجريب، وخلق أشكال أخرى من التعبير بالصورة، وإعطاء الأولوية لما هو تقني وجمالي على ما هو واقعي وإيديولوجي. فالمخرج، كالأديب، لابد أن يكون له أسلوبه الخاص عبر توظيف الكاميرا وبلاغة الصورة وضبط إيقاع الفيلم. وقد ظهر هذا النمط في فرنسا مع ما عرف باسم الموجة الفرنسية الجديدة French New Wave. وقد أحدث هذا النمط ثورة كبيرة، سواء على مستوى الصورة أو تقنيات السرد.
وقد عرفت السينما الثانية بسينما المؤلف Auteur Cinema، لأنها تنظر إلى المخرج بوصفه كل شيء، وليس مجرد منفذ أو حرفي ينتهي دوره بمجرد تنفيذ الفيلم، كما هو الحال في سينما هوليوود. فالمخرج له رؤيته الفلسفية وتصوره القيمي للعالم والوجود، وهو يسعى لتجسيد هذه الرؤى في أعماله. وبالتالي، فالعمل الفني ينسب إليه، إنه مبتداه ومنتهاه. وغالبا ما يكون "المخرج- المؤلف" لديه مشروع يسعى لتحقيقه عبر مجمل أعماله، وهذا المشروع يجعل لأعماله خصائص معينة تحقق له تفرده عن بقية المخرجين الآخرين. ونستطيع أن نقول إن مخرجين أمثال جان لوك جودار وفدريكو فيلليني Fellini ينتمون لهذا النمط.
السينما الثالثة
ظهرت السينما الثالثة في البلدان التي كان معظمها واقعًا تحت الاستعمار. ويصعب تحديد تاريخ أو مكان فعلي لنشأتها، لأنها لم تظهر كتيار أو مدرسة، بل غلب عليها طابع الإنتاج الفردي الحر. ويمكن القول إنها نشأت نتيجة الوعي بأهمية السينما كأداة اتصال جماهيرية، والوعي في الوقت ذاته بأن السينما لابد أن تعبر عن الواقع المحلي ومشكلاته، وهو واقع مختلف تمامًا عن واقع سينمات البلدان الأخرى. لذا فقد رفضت السينما الثالثة النموذجين السابقين، فالنموذج الهوليوودي يجعل من الربح هدفًا وحيدًا له، ويساهم في تقليص الفاعلية النقدية للمتلقي وتحويله لمتلق سلبي لفيض الصور المبهرة المتدفقة على الشاشة. كما أنه يتعامل مع الفيلم على أنه سلعة تجارية ينبغي تسويقها بكل الأشكال الممكنة، وهو من أجل ذلك يزيف الواقع ويحجب الحقائق: "إن الرأسمالية، سواء في المجتمع الاستهلاكي أو في بلد واقع تحت سيطرة الاستعمار الجديد، تضع حجابًا فوق كل شيء يقع خلف الشاشة التي تقدم صورًا ومظاهر خارجية. فصورة الواقع المعروضة أكثر أهمية لديهما من الواقع ذاته. إنها عالم آهل بالفانتازيات والأطياف، وما هو بشع في الواقع مكسو فيها بالجمال، في حين أن الجمال الحقيقي مخفي باعتباره الشيء البشع".
وقد رأى أصحاب السينما الثالثة أن محاولة مجاراة أفلام هوليوود تنتهي عموما إلى الفشل، وتكشف في النهاية عن وجود واقعين تاريخيين متباينين. فليست أمريكا الجنوبية كالشمالية، بل هما واقعان مختلفان في كل شيء. ومثل تلك المحاولات الفاشلة تؤدي إلى مشاعر الإحباط والدونية للقائمين عليها. فهي من جهة ليست إلا تقليدًا أعمى لنموذج آخر مع افتقاد إمكانياته وتقنياته المادية، ومن جهة أخرى تظل هذه المحاولات أسيرة هذا النموذج، دون أي محاولة لابتكار بنيات سينمائية جديدة تتجاوزه، لتقدم، بالتالي، رؤية أكثر التصاقا بالواقع المعيش.
كما رفضت السينما الثالثة النموذج الثاني ورأت فيه تكريسًا للسينما النخبوية، فالأفلام المنتمية لهذا النموذج غير موجهة للجمهور بكل طبقاته وفئاته، بل تتطلب لاستيعابها خلفية ثقافية عريضة وقدرات تأويلية واسعة يمتلكها المتلقي حتى يستطيع أن يفك رموزها وأن يقرأ الرسائل المبثوثة بين صورها. وبالإضافة لذلك لم تسلم تجارب السينما الثانية من سطوة ونفوذ النموذج الهوليوودي، بحيث وقع العديد منها أسيرا لكليشهات سينما هوليوود "خلال التاريخ المبكر للسينما كان من الممكن الحديث عن سينما ألمانية، إيطالية، وسويدية متميزة بوضوح، ومواكبة للسمات القومية الخاصة، إلا أن هذا الاختلاف قد اختفى الآن. فقد طُمست الحدود مع توسع الإمبريالية الأمريكية، ونموذج السينما الذي فرضته وهو أفلام هوليوود. وفي زماننا من الصعب أن تجد فيلما داخل نطاق السينما التجارية، بما في ذلك ما يعرف باسم سينما المؤلف، يحاول أن يتجنب نماذج الأفلام الهوليوودية والتي تمتلك سيطرة هائلة".
لقد رأت السينما الثالثة أن السينما التي تنشغل بالعوالم الخيالية، والحياة خارج كوكب الأرض، والكائنات الخرافية، والسينما التي تهدف في النهاية إلى المتعة البصرية، تقوم بشكل غير مباشر بخدمة الاتجاه الرأسمالي الاستعماري، لأنها تصرف المتلقين عن قضايا واقعهم، وبالتالي تساهم في تعميق عزلتهم واغترابهم. وبدلا من أن تمارس السينما دورًا تحرريًا كما أرادها فالتر بنيامين W. Benjamin، أصبحت أداة من أدوات تزييف الوعي واغترابه، على نحو ما وصفها تيودر أدورنو T. Adorno.


إلى أي نوع من أنواع السينمات السابقة يمكن إدراج تجربة شاهين؟ وفقا لهذه القسمة الثلاثية يمكن إدراج سينما شاهين ضمن سينما النوع الثاني (سينما المؤلف). غير أننا نجد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze (1925- 1975) يدرجه في كتابه الصورة- الزمن L'Image-Temps (1985) ضمن السينما السياسية، التي رآها مميزة لسينما العالم الثالث. ويضع جواره مخرجين آخرين ينتمون بصورة واضحة لهذا النوع، مثل جلوبيير روشا والمخرج السنغالي عثمان سيمبن. والحال أننا نستطيع أن ندرج سينما شاهين بالفعل ضمن نوعي السينما الثانية والثالثة، وهي بها من الخصائص ما يؤيد ذلك. وقد تناول دولوز سينما العالم الثالث في سياق حديثه عن السينما السياسية، وقد رأى أن الامتياز الحقيقي لهذه السينما يتمثل في ربطها ما هو اجتماعي ــ سياسي بما هو فني. ولأن العالم الثالث قد خضع لفترات طويلة للاستعمار سواء من الخارج أو الداخل؛ فإن سينمائيي هذا العالم قد تحملوا عبء مواجهة ومقاومة هذا الاحتلال عبر خلق لغة جديدة تتجاوز ما هو سائد وعبر استنهاض واستحضار الشعب الغائب أو المتغيب.

سمات السينما الثالثة
ثمة عودة من دولوز ــ وهو بصدد حديثه عن سينما العالم الثالث ــ إلى كافكا وإلى فكرته عن "اللغة الأقلية" أي اللغة داخل اللغة. فالمستعمر أو المحتل، والمستبد أيضا، يريد أن يفرض نموذجه الخاص على الشعب، ويسعى ما أمكنه للحفاظ على هذا النموذج وعدم اختراقه، فأي اختراق يهدد وجوده ويعرضه للخطر. يكون لسان حال المستعمر، وكذا المستبد "إن كنت تريد أن تكون إنسانًا، عليك أن تكون مثلي، تتحدث لغتي، وتنكر هويتك الخاصة، وتحول نفسك لتصبح أنا"، إنها محاولة لطمس الهوية، واستئصال الجذور، والمحافظة على الوضع القائم. وأمام هذا الوضع يجد سينمائي العالم الثالث نفسه في مأزق، إذ كيف يتجاوز ويخرق ما هو قائم، وفي الوقت ذاته يحقق التواصل مع الشعب والجمهور؟ يقول دولوز ملخصًا ذلك "إن السينمائي في العالم الثالث يجد نفسه من ناحية في الغالب إزاء جمهور أميًا، ينهل من المسلسلات الأمريكية والهندية، وأفلام الحركة، وعليه، ينبغي المرور عبر ذلك، والعمل بتلك المادة (الشعب) ليستخلص منها عناصر شعب لا يزال غير موجود. ومن ناحية أخرى، فإنه يجد نفسه غارقًا في المأزق الذي وصفه كافكا: من المستحيل ألا يكتب، من المستحيل أن يكتب باللغة المسيطرة، من المستحيل أن يكتب بشكل مخالف... من المستحيل ألا يتكلم، من المستحيل أن يتكلم بلغة أخرى غير الإنجليزية، من المستحيل أن يتكلم الإنجليزية، من المستحيل أن يقيم في فرنسا كي يتكلم الفرنسية. والحال، فعبر هذا التأزم ينبغي المرور، وينبغي عليه عليه هو حل هذا المأزق". إذن السمة الأولى التي ينسبها دولوز لسينما شاهين أنها تعبر لغة مختلفة أطلق عليها هو (اللغة الأقلية) مثلما فعل كافكا وبروست في مجال الأدب.

ثمة سمة أخرى للفيلم السياسي في العالم الثالث وهي ذلك "الارتباط بين العام والخاص"، بين السياسي والشخصي. فالحياة الشخصية للمؤلف أو صانع الأفلام في العالم الثالث تأخذ مكانها داخل الفيلم لتعبر عن وجهة نظره إزاء التناقضات والمشكلات الاجتماعية. ليس ثمة موضوعية، أو تعدد في وجهات النظر داخل الفيلم، بل فقط رؤية للمجتمع من خلال عيون المؤلف أو صانع الأفلام، وهي تمتزج في الغالب بالتاريخ الشخصي لهم. إنها سينما المزج بين الذات والعالم. وقد أشار كافكا من قبل إلى أن الفرق بين الآداب "الرئيسة" أو آداب "الأمم الكبيرة" والآداب "الناشئة" أو آداب "العالم الثالث"، هو أن الأولى تحافظ دومًا على حدود بين السياسي وبين الخاص أو الشخصي، في حين أن الشأن الشخصي في الثانية هو شأن سياسي على نحو مباشر.
السمة الثالثة للسينما السياسية في العالم الثالث فتتمثل في كونها "تعبيرا عن الأقليات والطبقات المهمشة". والواقع أن هذه السمة فرضها الوضع الاجتماعي والسياسي لشعوب هذا العالم (الاستعمار، الاستبداد)، بحيث يغدو الشعب بأكمله في وضع أقلية، إنها حالة تشظي للمجتمع يصعب الحديث فيها عن أي وضع من أوضاع الوحدة والاتحاد. الشعب مقسم إلى طبقات، وداخل الطبقة الواحدة ثمة طبقات أخرى عديدة، بحيث يؤدى هذا في النهاية إلى غياب مفهوم "الشعب"، الذي يشير في الأصل إلى "جماعة موحدة تجمعها صفات مشتركة"، يقول دولوز "إن ما أعلن نهاية الوعي القديم، هو ذلك الوعي الجديد بأنه لم يكن ثمة شعب، وإنما أقليات عديدة دومًا داخل الشعب..أقليات بانتظار التوحيد، وعليه فإن سينما العالم الثالث ليست سوى سينما أقليات، لأن الشعب غير موجود إلا في وضع الأقلية، ولهذا فهو غائب... إن السينما السياسية الحديثة قد تشكلت فوق هذا التجزؤ والتشظي، وذلك هو فارقها الثالث عن السينما السياسية الكلاسيكية". تلك هي القضية الأبرز التي رأى فيها دولوز موضوعا لسينما العالم الثالث: استدعاء الشعب ونقله من حالة الغياب إلى الحضور "إن لفعل الكلام رءوسًا عدة، وهو ينبت، بالتدريج عناصر شعب قادم في المستقبل". ويبقى على صانع الفيلم أن يشحذ أسلحته في مواجهة الواقع وكل قوى الهيمنة والسيطرة، عليه أن يكتشف لغته الخاصة، وهي لغة تنشأ من رؤية تفاعلية ورغبة في تغيير العالم "ينبغي أن ينشأ فعل الكلام كلغة غريبة داخل لغة مسيطرة، كي يعبر عن استحالة العيش تحت السيطرة". ليست السينما السياسية إذن تبريرًا للوضع القائم أو تزييفا له، "فليس ثمة تصالح مع الواقع" ــ كما يقول يسرى نصر الله.

شاهين والسينما الثالثة
استنادًا على ما سبق يستعرض دولوز سينما شاهين، وقد رأى فيها تجسيدا لهذه السمات. فالحدس الرئيس لأعمال يوسف شاهين - بحسب دولوز - هو سؤال الهوية.. سؤال الأنا عن نفسها.. الأنا في مقابل الآخر، وهو من أجل الإجابة عن هذا السؤال يفتش عن تلك الأنا في التاريخ (الناصر صلاح الدين، الوداع يا بونابرت، المصير)، أو داخل الذات (رباعية السيرة الذاتية) أو حتى في الحاضر المعاش (الأرض، ابن النيل، الاختيار، العصفور، الآخر)، إنه البحث عن الذات في الذات من أجل قلب الأوضاع وتوحيد الشعب (هي فوضى). وإذا كان سؤال "كيف" يحتل الصدارة في أعمال جودار، فإن سؤال "لماذا" يحتل نفس المكانة في أعمال شاهين، إنه سؤال الداخل والخارج "في أعمال شاهين يأخذ سؤال "لماذا" قيمة سينمائية خالصة مثل سؤال "كيف" لدى جودار، إنه سؤال الداخل، سؤال الأنا: ذلك أنه إذا كان الشعب غائبًا، إذا تشظى إلى أقليات، فإننى أنا الذي أكون، منذ البداية، شعبًا.. شعب ذراتي أو شعب شراييني". في السيرة الذاتية لشاهين ثمة صيرورة متبادلة بين الخارج والداخل، ففي "الإسكندرية ليه" هناك العديد من الخطوط المتقاطعة المحددة منذ البداية، غير أن واحدًا من هذه الخطوط هو الخط الرئيس (تاريخ حياة الصبى)، أما الخطوط الأخرى، فينبغي لها أن تكون مدفوعة حتى تصل إلى قطع الخط الرئيس. أما "حدوتة مصرية" فلا يبقي أي خط رئيس، بل يبرز الخطوط المتعددة التي تنتهي بالأزمة القلبية للمؤلف "حيث شرايين الداخل تكون متصلة، مباشرة، بخطوط الخارج" لكن سؤال لماذا أيضًا هو سؤال الخارج "سؤال العالم، سؤال الشعب الذي يبتكر ذاته فيما هو غائب".

والبحث عن الهوية يتطلب بالضرورة بحثًا في الذاكرة، سواء الشخصية منها أو العامة، لكن أعمال شاهين لا تضع فارقًا بين العام والخاص، فالخارج امتداد للداخل، والداخل انعكاس للخارج "ليست تلك الذاكرة سيكولوجية، كملكة لاستحضار الذكريات، ولا ذاكرة جماعية، مثل ذاكرة شعب حاضر وموجود، إنها تلك الملكة العجيبة التي تضع في اتصال مباشر الخارج والداخل، قضية الشعب والقضية الشخصية، الشعب الذي ليس موجودًا والأنا التي تغيبت، إنها غشاء رقيق فاصل، صيرورة مزدوجة" . حتى في أفلام شاهين التي يتم العودة فيها إلى التاريخ (الناصر صلاح الدين، الوداع يا بونابرت، جميلة بوحريد)، فإن هذه العودة لا تهدف إلى ترسيخ النموذج واستحضاره بقدر ما تهدف إلى إعادة النظر في مفردات الهوية ضمن سياق تاريخي جذاب أو مثير بالنسبة للمشاهد. فإعادة تشكيل الهوية مرتبطة بإعادة قراءة التاريخ، والحاضر في النهاية محايث للماضى، كما الماضى محايث للحاضر "إن الذاكرة اتصال بين العالم والأنا، داخل عالم مجزأ، وداخل أنا منهكة، لا ينفكان يتبادلان فيما بينهما. شرايين الشعب التي أنتمي إليها أو شعب شراييني". هذه الرغبة الملحة في البحث عن الهوية تدفع شخصيات شاهين دائمًا للسفر واجتياز المكان من أجل إتمام عملية البحث، لذا فشخصية المهاجر حاضرة باستمرار في أعماله، يقول شاهين "في ابن النيل ذهب الشاب الجنوبي منجذبًا وراء أضواء العاصمة ونداء المدن الكبيرة، وهناك تورط في جريمة وهمية وتعرض لمكيدة خطرة، وكان يمكن مع ذلك أن يبقى، ولكن المكان الأول ظل جاذبًا هو الآخر، ليرجع الشاب مع الفيضان ويلتقي مستعيدًا ابنه وامرأته.. كذلك في ثلاثية السيرة الذاتية، رغبة الهجرة متأججة وجذب المكان الأول قائم، الهجرة رغبة في تجديد المكان وتغيير الإقامة وتبديل العالم". من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم لماذا يختار شاهين أماكن يمكن وصفها إنها أماكن على الحافة، الإسكندرية على حافة البحر، ومحطة "باب الحديد" هي مكان تجمع وافتراق معًا، مكان وصول وسفر، مكان لسطوة الاشتياق الغامضة وتبدده أيضًا.

وإذا نظرنا بدقة في أعمال شاهين سنكتشف ما أدخله على القوالب التقليدية من جرأة سواء من حيث المضمون (كالنقد الاجتماعي الذي بلغ أشده في "صراع في الوادي" (1954) أو الشكل (من مزج مدهش بين الأجناس، وعمق في المجال مقترن بوضع الممثل في صدارة اللقطة وهو ما يوحي لدى شاهين بتوقه الدائم إلى أن يكون مكان الممثل أو أن يرى في الممثّل انعكاسا لصورته في المرآة، وهي خاصية لدى شاهين تستحق البحث).
صحيح أن هذه اللمسات المجددة ظلت خافتة، ومخفية في سرد خطي غلبت عليه كليشيهات العصر. فأفلامه العشرة الأولى كانت كافية له ليستوفي تمكنه من أغراض السينما السائدة وأساليبها. ثم جاء "باب الحديد" (1958) ليفرض يوسف شاهين كمؤلف بالمعنى الكامل الذي أخذته هذه الكلمة في ذلك الوقت، خاصة مع الموجة الجديدة الفرنسية (رغم أن شاهين لم تربطه أي علاقة خاصة بهذه الحركة، بل كانت غريبة عنه حتى أنه عاب على فرانسوا تروفو، في تصريحات له أدلى بها لكراسات السينما، قساوته على ريني كليمان).

في سنة 1947 سافر يوسف شاهين إلى أمريكا للحصول على شهادة في الفن الدرامي، إلا أنه أبى أن يمارس التمثيل بعد رجوعه إلى مصر، معتبرا أنه لا يملك من جمال الخلقة ما تقتضيه المهنة. والغريب أنه لم يبرز كمؤلف إلا من خلال الشريط الذي وقف فيه خلف الكاميرا وأمامها في الآن ذاته. عندها تبين أن اقتران التمثيل بالإخراج من المكونات الأساسية لصفة المؤلف لدى شاهين. فكان "باب الحديد"، وفيه سيكون بائع صحف أعرج، شبه معتوه، لا مأوى له، وهو يفيض رغبة نحو "هنومة"، بائعة المشروبات الغازية (هند رستم في أروع أدوارها). المكان واحد: محطة القطار، وحشد من الشخصيات لكل منها مجاله ومداره الخاص، أوضاع مختلفة غير أنها متقاطعة، قصص غرام مستحيلة، نقابيون في صراع من أجل حياة أفضل، نساء يدافعن عن حقوقهن. للمرة الأولى يرتقي السرد إلى هذا المستوى من التعقيد. أما عن عمق المجال الذي ظهر من حين لآخر في الأفلام السابقة فإنه سيتجلى الآن بصفة منتظمة، والأمر على كل حال كان نادرا في السينما العربية وقتها.


ثم سيتراجع شاهين بعض الشيء في أفلامه اللاحقة وسيواكب التيار السائد وقتها حتى سنة 1969 فيعود إلى الكليشهات- بتعبير دولوز- التي أزاحها "باب الحديد". وهي الفترة التي سيلتقي فيها أيضا بتأثيرات الناصرية في "الناصر صلاح الدين" (1963)، هذا الفيلم يعيد قراءة تاريخ صلاح الدين الأيوبي الذي لقبه شاهين بالناصر إشارة إلى القائد. ولأنه ليس من طبع شاهين أن يرضخ للسياسة ورجالها فسيهاجر إلى لبنان إثر خلافه مع السلطة دون التوقف عن التصوير حيث سيخرج "بائع الخواتم"(1965) الشريط الذي ارتبطت شهرته بالمطربة فيروز ثم "رمال من ذهب" (1966) وهو أقل شهرة، وربما قيمة. ورغم أن ابتعاده عن بلده لم يضف إليه شيئا في إبداعه السينمائي، فإن هذا لم يمنعه من اللعب بالأشكال والألوان في كلا الفيلمين.
هزيمة يونيو 67 ستشكل منعرجا أساسيا في أعمال شاهين. ومن يومها لا شيء سيظل على ما كان عليه سابقا. فالشك سيهيمن على عالم شاهين كله وسيسود التعقيد أعماله. سقطت خطيـة السرد كأنها أصبحت بالية، وعظم السؤال وتشنج التمثيل و"غاب الشعب" حسب عبارة جيل دولوز.

لقد التقى يوسف شاهين مرة أخرى بالحداثة السينمائية على نحو يذكرنا بفيليني وجودار وريني وروشا، وغيرهم. ثلاثة أفلام تشهد بالخصوص على ذلك: أولها "الاختيار" (1970) فيلم يطرح مسألة تورط المثقف مع السلطة من خلال قصة مربكة لازدواجية في الشخصية، وثانيها "عودة الابن الضال" (1976) قدم فيه المخرج صورة لاذعة للروابط العائلية وإن لم تخل من مرح، وثالثها "العصفور" (1973) الذي جاء بين هذا وذاك، ليقدم بحثا لا سابق له في عمق أغوار السلطة السياسة الملتوية واتهام الطبقة الحاكمة بتحمل المسئولية الكبرى في الهزيمة. ويبقى خطاب الاستقالة للرئيس جمال عبد الناصر كما صوره شاهين عالقا في الأذهان كلحظة لا مثيل لها في تاريخ السينما السياسية العربية. فكان إدراج الوثيقة التلفزية للخطاب في إخراج روائي تدوينا سينمائيا للحظة تاريخية تتأرجح فوق خط رهيف يفصل بين الواقع والخيال. والمفارقة أن خيبة الهزيمة مع عمق تأثيرها، لم تُـعتـم عالم يوسف شاهين بل رافقته حيوية فائقة. هنا يكمن جمال المفارقة في المزج بين الخطورة والخفة. فلا وجود مستقبلا لأي سلطة في خيال شاهين تدعي الحقيقة المطلقة. تعرت الذات فأضحت موضوع بحثها ولم تعد تخفي شكوكها، منطلقة تبحث، في هلع، عن شظايا عالم اختفى أو اختلت توازناته، فافتتحت مرحلة جديدة في حياة شاهين الفنية. إذ إلى جانب البعد النقدي، الذي ما انفك يتعمق، احتلت السيرة الذاتية مساحة الفيلم كله، واختلطت بكل بساطة الحكايات الصغيرة بحكاية التاريخ الكبير، وارتفعت الـ"أنا" إلى مستوى الـ"نحن"، وامتزجت الرواية بالواقع، وتشابك الحاضر بالماضي في تركيب معقد. لا شيء يلغي شيئا. ففي كل مرحلة يأتي شاهين ببـعد يضاف إلى الأبعاد السابقة فيزيدها كثافة وتعقيدا، عوض أن يلغيها. هكذا ينضم المنحى السياسي الذي ظهر في الستينيات إلى الواقعية الاجتماعية التي برزت في الخمسينيات. ومع نهاية السبعينيات سيبرز "الأنا" ليحتل مكانه إلى جانب التحليل النقدي لعالم السياسة المعقد. تضافرت أهواء المخرج وهواماته مع قضايا العصر الكبرى على نحو باروكي في سعي إلى استعادة الآمال الضائعة. فكان نصيب الحرب العالمية الثانية لا يفوق نصيب رغبة يحيى في التمثيل. وإن جاء شريط ("حدوتة مصرية" 1982) مباشرة بعد ("اسكندرية ليه" 1978) فلم يكن الأمر كذلك بين ("اسكندرية كمان وكمان" 1984) و("اسكندرية نيويورك" 2004) بل توسطتهما أفلام أخرى. إذ لم تمنع مغامرة الغوص الخارقة للعادة في شرايين المخرج "حدوتة مصرية" من أن يعود هذا الأخير إلى الأحداث التاريخية الكبرى ("وداعا يا بونابرت" 1985). كما لم يمنعه رجوعه إلى التاريخ من العودة إلى الحكايات الصغرى ("اليوم السادس" 1986). وما الذي سيمنع أن ينفصل "اسكندرية كمان وكمان" عن "اسكندرية نيويورك" فيأتي بينهما ("المهاجر" 1994) و("المصير" 1997) و("الآخر" 1999) و("سكوت حنصور" 2001). فكان الأول "المهاجر" استعارة مستوحاة من قصص الأنبياء أثارت غضب الأصوليين والقائمين على الفكر الديني المحافظ، وكان الثاني "المصير" رد فعل سينمائيا على المشرفين على الرقابة الدينية. وكان الثالث "الآخر" محاكمة لعولمة وقحة. وكان الرابع "سكوت حنصور" مراوحة جديدة حول الفن في الحياة والحياة في الفن.

لا تنحو أعمال شاهين نحو الأسطورة إلا في أضيق الحدود، فهي تسعى باستمرار إلى تقديم رسالة للمتلقى– حتى لو اتهمه هذا الأخير بالصعوبة والتعقيد "ذلك لأن كل قصص خيالي شخصي وكل أسطورة لا شخصية، هما في مصلحة "السادة". فالأسطورة تغييب للوعي "إن المؤلف السينمائي يجد نفسه إزاء شعب خاضع لاستعمار مزدوج، فهو من ناحية الثقافة، مُستعمر من قبل القصص القادمة إليه من مكان آخر، وفي الوقت ذاته من قبل أساطيره الخاصة التي تعمل لخدمة المستعمر". وبالمثل كان شاهين يتأفف من وصف أعماله بالرمزية والتجريد "إننى أقدم الواقع، لكن على طريقتي" وقد عمد في العديد من أفلامه إلى استخدام اللغة المباشرة كرسالة موجهة للشعب، وتلك سمة أخرى من سمات السينما السياسية الحديثة - بحسب دولوز، فقد تخلت هذه السينما عن كل مجاز وأي استعارة وقدمت خطابًا مباشرًا (على نحو ما رأينا سابقًا). في فيلم "العصفور" 1969 تخرج البطلة "بهية" صارخة ترفض هزيمة 1967، ويخرج الناس وراءها يحاصرون اللصوص الذين كانوا ما زالوا يواصلون نهب مؤسسات الدولة حتى بعد أن كشف عبد الناصر في خطاب التنحي الشهير حجم الهزيمة. وفي فيلم "هي فوضى" تعود "بهية" من جديد لكن في وضع أكثر سوءًا من هزيمة 1967، ترفض الطرح السياسي الموجود (الإخوان المسلمون، الحزبى الوطني الحاكم)، كما ترفض وتقاوم الفساد المستشري في الدولة والذي تجسد في شخص "حاتم" رمز السلطة الغاشمة، لتخرج في نهاية الفيلم على رأس مظاهرة يتبعها الآلاف نحو مركز الشرطة (مركز السلطة)، رافعين لافتات تنادي بالتغيير وتنتصر لأحد رموز المعارضة. هذا الإفراط في الخطاب المباشر (الذي يعتبره البعض انتقاصًا للعمل الفني) نابع من فكرة مؤداها أن الواقع لم يعد يحتمل الخيالي أو الرمزي، ينبغي توجيه الجمهور نحو الهدف.. نحو مكمن الخطر. وإذا كان التخلي عن المجازي والرمزي هو إحدى سمات السينما الحديثة، فإن العودة إلى نموذج الثورة الكلاسيكية هي إحدى السمات التي تخلت عنها السينما السياسية الحديثة؛ من هنا كان "هي فوضى" جامعًا بين فكرة كلاسيكية (الثورة) وشكل حداثي (الخطاب المباشر).


 
 
 

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات